محاولات أعداء الإسلام لتحريف القرآن والنيل منه قديمة قدم الإسلام.. فلا تكاد تنتهي حملة حتي تظهر أخري, معتقدين بذلك أنهم يمكن أن ينالوا من القرآن وقدسيته, أو يغيروا في كلامه أو يبدلوا في آياته, ولكن هيهات هيهات, فالقرآن لا يتأثر بكيد الكائدين,
ولا يتغير بحقد الحاقدين, وإذا حاولوا أن يبدلوا في الحروف أو في الكلمات فإنهم لا يستطيعون أن يغيروا ما نقش في صدورنا وتدبرته عقولنا, وإذا أرادوا أن ينالوا من كتاب الله فعليهم أن ينزعوا الصدور التي تحمل القرآن, فالقرآن محفوظ بحفظ الله. وفي هذا التحقيق سنتعرف علي حفظ الله للقرآن, وما الأسباب التي هيأها الله عز وجل لحفظ كتابه العزيز من التحريف والتبديل؟.
رفع جهود البشر
في البداية يوضح الدكتور عبد الله بركات عميد كلية الدعوة الأسبق ـ جامعة الأزهر ـ أن مالك الشيء يصونه ويحفظه, وإن عجز عن صيانته ضعف ملكه أو زال.. هذا مشاهد ومعلوم في دنيا الناس, وبدون تشبيه ولله المثل الأعلي.. فالله مالك الملك ذو الجلال والإكرام.. اقتضت حكمته أن يحفظ للبشرية دليل هدايتها ورشدها تاما كاملا في القرآن الكريم, ولقد حفظ الله عز وجل كتابه العزيز في اللوح المحفوظ فلا يشاركه فيه غيره سبحانه وتعالي, فلا تمتد إليه يد ملك مقرب أو كائن من كان, حتي أذن الله عز وجل له بنزوله جملة واحدة إلي السماء الدنيا في ليلة القدر, ثم أذن بنزوله مفرقا علي مدي32 سنة علي قلب النبي صلي الله عليه وسلم ـ ليثبت به الفؤاد وليرتله ترتيلا.
ويضيف: الذي تولي حفظ القرآن والرعاية في اللوح المحفوظ هو الذي تولي الحفظ والرعاية في الصدور والسطور, فجعله مصانا من التحريف والزيادة والنقصان, فما عهد الله عز وجل بحفظ كتابه العزيز لنبينا صلوات الله عليه وسلم, ولا لصحابته الكرام, ولا لتابعيهم, ولا لملك أو رئيس ولا لهيئة أو نظام, فرفع جهود البشر ابتداء عن حفظه وتكفل وحده بحفظه علي الأرض, كما كان حافظه في السماء, ويعكس هذا حرص النبي- صلي الله عليه وسلم ـ علي حفظ القرآن الكريم, فالنبي- صلي الله عليه وسلم ـ لم يكن يجيد القراءة والكتابة إنما كان أميا لا يقرأ ولا يكتب, فكان يحرص علي أن يسابق جبريل ـ عليه السلام ـ القراءة خشية أن يتفلت منه شيء من القرآن مما يسمع, فنهاه الله عز وجل عن ذلك قال تعالي لا تحرك به لسانك لتعجل به), فعلة تحريك النبي صلي الله عليه وسلم ـ اللسان حرصه الشديد علي أن يحفظ القرآن بسرعة وألا يفوته منه شيء ولكن الله تعالي يقول له ليس هذه مهمتك يا محمد, إن مهمتك أن تستمع وأن تنصت ثم بعد أن يفرغ جبريل عليك أن تقرأ ما سمعت, وتلك دلالة الآيات( لا تحرك به لسانك لتعجل به إنا علينا جمعه...) ـ أي في صدرك ـ.. وقرآنه أي تمكينك من قراءته كما سمعته دون زيادة أو نقصان.
[color=blue][color=blue]وأوضح أن من تمام حفظ الله للقرآن أن أضاف علي حفظ النص كذلك بيان الفهم للنبي صلي الله عليه وسلم ـ في قوله تعالي: ثم إنا علينا بيانه, فليس عليك يا محمد جهد في أن تحفظه وليس عليك جهد في أن تستوعبه أو تفهمه بل نحن الذين سنحفظه في صدرك, ونحن الذين سنمكنك من قراءته كما بلغك, ونحن الذين سنجعلك تفهم المراد منه وتبينه للناس علي النحو الذي أفهمناك, بل إن الله عز وجل يزيد عليها الرابعة كما جاء في سورة الأعلي بأن هذا الإمكان والتمكين لنبيه صلي الله عليه وسلم ليس لحظيا وليس وقتيا وليس مرهونا بزمان, كما أنه صلي الله عليه وسلم لن يصيبه الخرف مهما بلغ سنه ولا ينسي كلام الله عز وجل مهما حدث له مصداقا لقوله تعالي: سنقرئك فلا تنسى
تيسير الحفظ
ويضيف الدكتور عبد الله بركات: من دلائل حفظ الله للقرآن أن يسر قراءته وفهمه واستيعابه وحفظه.. قال تعالي: ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر, وفي حفظ القرآن آيات وأعاجيب ففي الوقت الذي يري فيه كثير من التربويين أن حفظ القرآن بهذا الكم أمر ثقيل وجهد جهيد وبخاصة علي الأطفال والناشئة.. فإننا نري اليوم أطفالا دون السابعة وقد أتموا حفظ القرآن ليس بنصه فقط, وإنما بأرقام آياته وأرقام صفحاته, بل وعقولهم حاضرة كأفضل ما يكون جهاز كمبيوتر يعرفه الإنسان.
وأوضح أن من الأشياء التي تعكس مدي حفظ الله لكتابه الكريم أن قيد لحفظه أعاجم لا يدرون من العربية شيئا.. فتري الهنود وأبناء تركيا وغيرهم كانوا إذا قرأوا القرآن كانوا به مهرة, وإذا ما خاطبتهم بالعربية لا يفقهون عنك ولا تفقه عنهم.. فسبحان من يسر هذا القرآن للذكر فحفظه حتي الأعاجم. بل إن هناك من حفظ القرآن وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب وحفظه خلف المذياع عن طريق الاستماع للمصحف المرتل بالإذاعة.
ويضيف: إذا كانت هذه إمارات الحفظ مع الناس عامة صالحهم وطالحهم أميهم وعجمهم ومتعلمهم فما بالنا بحفظ القرآن ودلائل حفظه علي أيد أهله.. إنهم يتفننون في قراءته وإدراك المتشابه منه ومعرفة أحكامه وناسخه ومنسوخة وأسباب نزوله بل إنهم كانوا يعرفون متي نزلت الآية وفيمن نزلت وأين نزلت.
ليس فيه تناقض ولا اختلاف
من دلائل حفظ الله لكتابه العزيز كما يقول الدكتور عبد الله بركات: سلامة متنه فليس فيه ما يسيء إلي الله, وليس فيه ما يسيء إلي النبي صلي الله عليه وسلم ـ وليس فيه تناقض أو اختلاف ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا, ثم هو يشتمل علي الأمور الغيبية وبخاصة اليوم الآخر, ولقد تحدي الله عز وجل به الثقلين الإنس والجن ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا أن يأتوا بمثل القرآن أو أن يأتوا بمثل عشر من مثله أو أن يأتوا بمثل أقصر سورة منه, والتحدي من الله قائم إلي أن يرث الأرض ومن عليها, وهو أكبر دليل علي أن الله وحده هو الذي تكفل بحفظ القرآن.
وأضاف: من دلائل الحفظ أيضا أن نسبة القرآن إلي النبي صلي الله عليه وسلم ـ يقينية ليست لأحد من الصحابة, ثم تلقته الأمة بالقبول, فلقد اتفقت آيات القرآن ترتيبا ونطقا وحرفا بين ما كان في صدور الناس كما سمعوه من سيد الناس صلي الله عليه وسلم وما هو مكتوب في الرقاع, فكان هذا هو كلام الله عز وجل.. وهذا يعني اصطلاحيا بدلائل صحة السند.. فليس في هذا السند أي إخلال لا في عوامل الكتابة ولا في عوامل الحفظ.. لا الحفظ في الصدور ولا السطور.. فسند القرآن لربنا بلاغ علي لسان نبينا وصولا إلينا كما تم في الجمع الأول في عهد أبي بكر ـ رضي الله عنه والجمع الثاني في عهد عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه, كما نزل به جبريل علي قلب النبي صلي الله عليه وسلم, لا يختلف في قراءته أعجمي أو عربي.
إعجازه صانه من التحريف
ومن دلائل حفظ القرآن الكريم أن كلامه معجز يعجز عنه الفصحاء والبلغاء والشعراء, فهو غالب في إعجازه, غالب في بيانه, غالب في ألفاظه, غالب في نظمه قال تعالي: لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد, وهذا الإعجاز جعل استحالة تحريفه, هذا ما أكده الدكتور مصطفي مراد الأستاذ بكلية الدعوة ـ جامعة الأزهر ـ الذي قال: القرآن كتاب عزيز منيع قوي محكم يتعذر علي أهل الباطل أن يخترقوه مهما أوتوا من القوي والحيل.. وسيبقي بعيدا عن التحريف مهما حاول الآفكون والخراسون, وقد أقر بإعجاز القرآن الخصوم قبل المؤمنين.. فشهد بإعجازه وسبقه وتفرده أعلم الناس بالبلاغة والفصاحة وهم كفار قريش.. وهذا الوليد بن المغيرة وكان سيد عشيرته وأفصح قومه عندما سمع القرآن من النبي صلي الله عليه وسلم قال عنه والله إن لقوله حلاوة وإن عليه طلاوة وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله وإنه ليعلوا ولا يعلي).
وأضاف: القرآن معجز بكثرة معانيه التي لا يجمعها كلام البشر, فتري اللفظ الواحد يحتمل معاني متغايرة تحار فيها العقول, فتأتي الكلمة في مواضع مختلفة بلفظها وتتعدد معانيها مثل كلمة أمة فتأتي بمعني الجماعة كقوله تعالي: إن هذه أمتكم أمة واحدة, وتأتي بمعني الدين, كقوله تعالي إنا وجدنا آباءنا علي أمة): وتأتي بمعني الرجل المطيع لله, كقوله: إن إبراهيم كان أمة. قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين), وتأتي بمعني الفترة والزمن كقولهوقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة).
وأوضح أن من إعجاز القرآن أيضا ظهور جوامع الكلم في ألفاظه ومعانيه وذلك له ضروب وأشكال كثيرة جدا كقوله تعالي: وأوحينا إلي أم موسي أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين, فجمع في آية واحدة بين أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين, كما أن القرآن معجز في حروفه والتي عجز المفسرون أن يجدوا تفسيرا لهذه الأحرف.
وأشار إلي أن من دلائل حفظ القرآن اشتماله علي سائر العلوم الدينية والدنيوية التي لا يمكن لبشر أن يحيط بها, وكل هذه الألوان من إعجاز القرآن تجعله كتابا لا يضاري, وذكرا لا يضارع, وتبيانا لا يماثل, وعلما لا يحاكي.. مما جعل استحالة تحريفه.
تأثيره في القلوب
كلما قام أعداء الإسلام بتحريف آيات القرآن فسرعان ما يكتشف هذا التحريف وهذا التبديل وأرجع الشيخ عماد مالك إمام وخطيب بالأوقاف ذلك لأن القرآن له تأثير عجيب في القلوب.. فالروعة تلحق بقلوب سامعيه, والهيبة تعتريهم عند تلاوته, كما أن قارئه لا يمل منه, بل كثرة تلاوته تزيده حلاوة, وكثرة ترديده توجب له المحبة, وغيره من الكلام يمل الإنسان من تكراره وترديده, كما أن لنظم ألفاظه بهجة لا توجد في غيره, حتي إن الكافرين لم تنج قلوبهم من تأثيره.. فعندما كان النبي صلي الله عليه وسلم يقرأ سورة النجم وحينما سمعوا قوله تعالي فاسجدوا لله واعبدوا).. سجدوا خلف النبي صلي الله عليه وسلم دون أن يشعروا.. وهذا التأثير يجعل الإنسان يميز كلام الله عز وجل عن أي كلام آخر, مما جعل استحالة تحريفه, وأشار إلي أن المسلمين مرت عليهم فترات ضعف كثيرة ورغم ذلك لم يستطع أحد أن يحرف في كتاب الله حرفا واحدا لأن القرآن يستمد قوته من الله عز وجل, وهؤلاء الذين يريدون تحريف القرآن ظنا منهم أنهم بذلك سيقضون علي تلك المعجزة الخالدة, فإن مثلهم كمثل ذبابة حقيرة وقعت علي نخلة تمر فلما أرادت أن تنصرف قالت للنخلة تماسكي حتي أنصرف فقالت لها النخلة انصرفي أيتها الحقيرة فما شعرت بك من قبل.
"حفظ القرآن واجب علي عموم الأمة"
من دلائل حفظ القرآن الكريم أن الله عز وجل فرض علي عموم الأمة حفظه, كما فرض عليها أن يكون فيها من يعلم القرآن ويتعلمه, فإن لم تفعل الأمة ذلك أثمت جميعا, فإذا حفظ البعض القرآن الكريم سقط الإثم عن البعض الآخر هذا ما أكده الشيخ طارق عبد الحكيم عضو لجنة المصحف بمجمع البحوث الإسلامية الذي قال: إن الله عز وجل قيد لهذا الكتاب العظيم من ينشئون الناشئة الصغيرة علي معرفة القرآن وحفظه, وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يولون القرآن اهتماما كبيرا.. فكان تعليم وحفظ القرآن الكريم يعتبر من البدائيات التي يجب أن يتعلمها المسلم فروي عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم أن الرجل إذا هاجر دفعه النبي صلي الله عليه وسلم إلي رجل منا يعلمه القرآن, فأنظر إلي أول ما كانوا يبدأون به بعد أن يتعلموا مبادئ الإيمان والإسلام..
وأوضح أن النبي صلي الله عليه وسلم قد أمر بحفظ القرآن فقال صلي الله عليه وسلم: تعلموا كتاب الله واقتنوه وتعاهدوه وتغنوا به, فو الذي نفسي بيده لهو أشد تفصي من المخاض في العقل, وهذا يبين أهمية تعلم القرآن وحفظه.. فنحن الأمة الوحيدة التي كرمها الله عز وجل بأن تحفظ كتابها في صدورها, لذلك يجب أن نشجع معاهد القرآن الكريم ويجب أن تكون تحت إشراف الدولة حتي تكون الأمور منضبطة, وفي نفس الوقت يكون هناك شيء يحسب لهذه الأمة ويكون في ميزان حسناتها, لأن من يخدم القرآن فهو يخدم نفسه, ومن يحفظ القرآن فهو في الحقيقة يحفظ نفسه.وأوضح أن الله عز وجل جعل الثواب والعظيم والجزاء الجزيل لمن يقرأ القرآن ويحفظه.. فالذي يحفظ كتاب الله فإن الله عز وجل لن يعذبه في الدنيا ببلاء أو مجاعة أو بأي شيء من أهوال الدنيا, لأن الله عز وجل يحفظه لحفظه للقرآن, كما أنه لن يعذب في الآخرة, فقد ورد عن بن عباس رضي الله عنه ضمن الله تعالي لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألا يضل في الدنيا, ولا يشقي في الآخرة, وتلا الآية( فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقي).. كل هذه الترغيبات جعلت القرآن محفوظا في صدور ملايين المسلمين, وجعلت من المستحيل تحريف القرآن لأن من أراد أن يحرف القرآن عليه أن ينزع الصدور التي تحفظ القرآن.