من أحرق المصحف؟
بقلم بلال فضل ١٤/ ٩/ ٢٠١٠
قل لى بالله عليك.. كم مرة فى حياتك التى لاتسر الصديق ولاتغيظ العدا شاهدت هذا المشهد العبثى المرير؟.
أعنى المشهد الذى يذهب فيه الحاكم العربى ليفتتح مصنعا أو يحضر مناسبة وطنية أو دينية أو يلتقى بثلة من أفراد شعبه المتدله فى حبه، وبعد أن يلقى عليهم الخطاب الذى كتبه شخص آخر وقام شخص ثالث بتدريب الحاكم على إلقائه بالتشكيل، وبعد أن تلتهب أكفهم من التصفيق وحناجرهم من الهتاف بفدائه بالروح والدم والعضم، وبعد أن يقوم بتوزيع شهادات التقدير لقدامى المنتسبين إلى الموقع الذى يزوره، لأنهم استطاعوا أن يتحملوا الحياة فى عهده كل هذا الوقت، يقف مسؤول الموقع المزور - من الزيارة والتزوير معا - بكل خشوع، وينظر إلى الحاكم نظرة مديحة يسرى لعبدالحليم حافظ فى فيلم الخطايا، نظرة كلها أمومة وطفولة وتنظيم أسرة فى نفس الوقت،
بينما يعلن المذيع - بكل فخر - أن الوقت قد حان لكى يتلقى الحاكم هدية أبنائه فى هذا الموقع، يقف الحاكم متصنعا أنه «مفوجأ» بموضوع الهدية هذا و«أنه ماكانش عامل حسابه على هدايا»، لكن نظرة الإصرار فى عين المسؤول الأوطى منه فى الترتيب القيادى تذكره بأن النبى قبل الهدية، فيبتسم الحاكم ابتسامة كلها رضا عبدالعال، بعدها تأتى الهدية يحملها اثنان من الموظفين يتم اختيارهما بعناية،
حيث يتم التأكد من خلوهما من الأمراض المعدية والمشاعر وعدم القدرة على العض، يسيران بتؤدة كأنهما جمل المحمل يحمل كسوة الكعبة، يصلان إلى الحاكم وهما يحاولان منع نفسيهما من الارتماء فى حضنه لكى لا تقع الهدية منهما، يهرول رئيسهما ليفتح الهدية التى تكون دائما صندوقا كبيرا مغلفا بالقطيفة الفاخرة، ثم يفتح الصندوق لنرى بداخله مصحفا شريفا ضخما بغلاف فاخر موشى بماء الذهب، ينظر إلى الحاكم بفخر من جاب التائهة، يرد له الحاكم النظرة بعشرة أمثالها، ثم يقترب من المصحف ويميل عليه ويقبله، يسود المكان جو روحانى يشعرك أنك فى عصر الخلافة الراشدة،
وربما لو تركت لخيالك العنان لاعتقدت أن الحاكم الذى يقف أمامك هو السلطان صلاح الدين الأيوبى، وأن ماكان يفتتحه هو المسافر خانة أو دار الحكمة، وأن رسولا بالباب سيدخل ليعلن فتح أنطاكية، ولظننت أن السلطان سيأمر للذى أهداه المصحف بصرة من الدنانير تحية لتقواه، ولتخيلت أن الحاكم من فرط تأثره سيقوم بفتح المصحف وسيأمر الحاضرين وعلى رأسهم كبار رجالته بإخراج مصاحف صغيرة لتتحول الجلسة إلى مقرأة يقرأ فيها الجميع كتاب الله، لكنك ستفيق من كل خيالاتك هذه عندما يلتفت الحاكم خلفه لينظر إلى أحد مساعديه نظرة ذات مغزى (خذ بالك أن المشهد برمته صامت وهذه أرقى أشكال التعبير البصرى) فيقترب المساعد بثبات وجلال وأحيانا جلال بيكون واخد أجازة فيقترب بثبات فقط،
يعيد المساعد المصحف الفاخر إلى صندوقه ويغلقه عليه ثم يحمل الصندوق بمفرده ويتراجع دون أن يدير ظهره للحاكم وسط تصفيق جنونى من الجميع، بينما يغرق مسؤول الموقع الحاكم فى بحر من نظرات الامتنان لأن هديته نالت القبول، متمنيا أن تحل بركة الهدية عليه لكى ينتقل من هذا الموقع المدعوق الذى تدفن فيه مهاراته إلى موقع يستطيع السرقة فيه بشكل أكبر، ويفهم الحاكم نظراته الشغوفة فيهز له رأسه مطمئنا ومطالبا بالصبر والتريث لأن كل شىء بنصيب.
الآن وقد وصفت لك هذا المشهد بدقة أحسبها متناهية لدىّ سؤال وحيد يشغلنى «يا جدعان هى المصاحف دى كلها بتروح فين؟»، أليس هذا بالذمة سؤالا محيرا، ألا يشغل بالك والنبى، يعنى لو فرضنا أن الحاكم ظل فى موقعه خمسة عشر أو عشرين عاما، قول أربعة وعشرين أو قول ثلاثين، يعنى ليس المهم عدد السنوات الآن، المهم هو معرفة مصير تلك المصاحف الفاخرة التى تساوى الشىء الفلانى التى يظل الحاكم يتلقاها خلال «جثومه» على منصبه،
فإذا كان يذهب إلى مناسبتين كل شهر على الأقل فهو يتلقى خلال العام ما بين عشرين وأربعة وعشرين مصحفا، يعنى إذا كان قد بقى فى الحكم ربع قرن سيكون لديه الآن خمسمائة مصحف على الأقل، يعنى أكثر مما بداخل المقر الرئيسى للجمعية الشرعية من مصاحف،
وهو أمر ينبغى أن نفتخر ونعتز به فنحن فى بلد الأزهر ويشرفنا أن يكون لدى مسؤولينا هذا العدد الكبير من المصاحف الموشاة بماء الذهب، لكن ما سيشرفنا أكثر أن يفكر المسؤول الذى يتلقى المصحف ولو لمرة واحدة فى قراءته والتأمل فى بعض آياته الكريمة بدلا من تقبيله والالتفات إلى مساعده لكى يحمله إلى حيث يتم تخزينه مع سابقيه، ولكى لا أظلمه ربما لاتكون الغلطة غلطته بل غلطة من يهدى له المصحف حيث يختار له حجما كبيرا ليس من السهل القراءة فيه،
كما أنه يضعه فى صندوق ثقيل ومحكم الإغلاق وهى كلها طقوس تتنافى مع روحانية الهدية. ربما لو أنصف من يهدى المصحف إلى أى مسؤول وأراد به وبنا خيرا، لكان أكثر تحديدا وهو يهدى المصحف إليه فيفتحه له على آية محددة ويهمس فى أذنه «يا ريت سعادتك تقرا الآية دى»، إذ لربما قرأها فعلا فأيقظت ضميره وأحالت الجبل الجاثم فوق مشاعره خاشعا متصدعا من خشية الله.
يعنى أليس من الأوفق ونحن نهدى للمسؤول مصحفا قطيفة أن نذكره بالآية الكريمة «إن الله يأمر بالعدل والإحسان.. إلخ الآية»، أو بآية «ولا تفسدوا فى الأرض بعد إصلاحها.. إلخ الآية»، أو بآية «ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون.. إلخ الآية»، أو بتلك الآية الجامعة المانعة «ليجزى الله كل نفس ماكسبت إن الله سريع الحساب». ألن تصبح حياتنا أفضل حينها؟،
فنكون مسلمين حقا وصدقا، لامسلمين فقط بالمظاهر الكاذبة والطقوس الجوفاء، أليس من الأفضل أن نفرج عن المصحف من صندوقه القطيفة الفاخر لننتفع حقا وصدقا بما فيه؟،
وإلا فلنفضها سيرة ونعلن أننا لسنا معنيين بما فيه ونهدى للحاكم علبة شيكولاتة أو قزازة ريحة؟، ألا يأتى علينا اليوم الذى يرفض فيه الحاكم أن يعطى المصحف المهدى إليه لمساعده بل يأخذه بنفسه ويترك كل من حوله وما حوله ويجلس محاولا أن يتأمل ما بداخل المصحف لعل كتاب الله يهدى طريقه وينير قلبه فيحارب الفساد والتطرف ويكافح الظلم والجهل؟.
ربما ستجد الإجابة على كل هذه الأسئلة فى ثنايا التعبير القرآنى البديع «الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثانى تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم»، وهى الإجابة التى ستقودك إلى سؤال أخير: لكن ماذا عن جلود الذين لايخشون ربهم؟.
( من كتاب «أمست يبابا» - تحت الطبع)
بقلم بلال فضل ١٤/ ٩/ ٢٠١٠
قل لى بالله عليك.. كم مرة فى حياتك التى لاتسر الصديق ولاتغيظ العدا شاهدت هذا المشهد العبثى المرير؟.
أعنى المشهد الذى يذهب فيه الحاكم العربى ليفتتح مصنعا أو يحضر مناسبة وطنية أو دينية أو يلتقى بثلة من أفراد شعبه المتدله فى حبه، وبعد أن يلقى عليهم الخطاب الذى كتبه شخص آخر وقام شخص ثالث بتدريب الحاكم على إلقائه بالتشكيل، وبعد أن تلتهب أكفهم من التصفيق وحناجرهم من الهتاف بفدائه بالروح والدم والعضم، وبعد أن يقوم بتوزيع شهادات التقدير لقدامى المنتسبين إلى الموقع الذى يزوره، لأنهم استطاعوا أن يتحملوا الحياة فى عهده كل هذا الوقت، يقف مسؤول الموقع المزور - من الزيارة والتزوير معا - بكل خشوع، وينظر إلى الحاكم نظرة مديحة يسرى لعبدالحليم حافظ فى فيلم الخطايا، نظرة كلها أمومة وطفولة وتنظيم أسرة فى نفس الوقت،
بينما يعلن المذيع - بكل فخر - أن الوقت قد حان لكى يتلقى الحاكم هدية أبنائه فى هذا الموقع، يقف الحاكم متصنعا أنه «مفوجأ» بموضوع الهدية هذا و«أنه ماكانش عامل حسابه على هدايا»، لكن نظرة الإصرار فى عين المسؤول الأوطى منه فى الترتيب القيادى تذكره بأن النبى قبل الهدية، فيبتسم الحاكم ابتسامة كلها رضا عبدالعال، بعدها تأتى الهدية يحملها اثنان من الموظفين يتم اختيارهما بعناية،
حيث يتم التأكد من خلوهما من الأمراض المعدية والمشاعر وعدم القدرة على العض، يسيران بتؤدة كأنهما جمل المحمل يحمل كسوة الكعبة، يصلان إلى الحاكم وهما يحاولان منع نفسيهما من الارتماء فى حضنه لكى لا تقع الهدية منهما، يهرول رئيسهما ليفتح الهدية التى تكون دائما صندوقا كبيرا مغلفا بالقطيفة الفاخرة، ثم يفتح الصندوق لنرى بداخله مصحفا شريفا ضخما بغلاف فاخر موشى بماء الذهب، ينظر إلى الحاكم بفخر من جاب التائهة، يرد له الحاكم النظرة بعشرة أمثالها، ثم يقترب من المصحف ويميل عليه ويقبله، يسود المكان جو روحانى يشعرك أنك فى عصر الخلافة الراشدة،
وربما لو تركت لخيالك العنان لاعتقدت أن الحاكم الذى يقف أمامك هو السلطان صلاح الدين الأيوبى، وأن ماكان يفتتحه هو المسافر خانة أو دار الحكمة، وأن رسولا بالباب سيدخل ليعلن فتح أنطاكية، ولظننت أن السلطان سيأمر للذى أهداه المصحف بصرة من الدنانير تحية لتقواه، ولتخيلت أن الحاكم من فرط تأثره سيقوم بفتح المصحف وسيأمر الحاضرين وعلى رأسهم كبار رجالته بإخراج مصاحف صغيرة لتتحول الجلسة إلى مقرأة يقرأ فيها الجميع كتاب الله، لكنك ستفيق من كل خيالاتك هذه عندما يلتفت الحاكم خلفه لينظر إلى أحد مساعديه نظرة ذات مغزى (خذ بالك أن المشهد برمته صامت وهذه أرقى أشكال التعبير البصرى) فيقترب المساعد بثبات وجلال وأحيانا جلال بيكون واخد أجازة فيقترب بثبات فقط،
يعيد المساعد المصحف الفاخر إلى صندوقه ويغلقه عليه ثم يحمل الصندوق بمفرده ويتراجع دون أن يدير ظهره للحاكم وسط تصفيق جنونى من الجميع، بينما يغرق مسؤول الموقع الحاكم فى بحر من نظرات الامتنان لأن هديته نالت القبول، متمنيا أن تحل بركة الهدية عليه لكى ينتقل من هذا الموقع المدعوق الذى تدفن فيه مهاراته إلى موقع يستطيع السرقة فيه بشكل أكبر، ويفهم الحاكم نظراته الشغوفة فيهز له رأسه مطمئنا ومطالبا بالصبر والتريث لأن كل شىء بنصيب.
الآن وقد وصفت لك هذا المشهد بدقة أحسبها متناهية لدىّ سؤال وحيد يشغلنى «يا جدعان هى المصاحف دى كلها بتروح فين؟»، أليس هذا بالذمة سؤالا محيرا، ألا يشغل بالك والنبى، يعنى لو فرضنا أن الحاكم ظل فى موقعه خمسة عشر أو عشرين عاما، قول أربعة وعشرين أو قول ثلاثين، يعنى ليس المهم عدد السنوات الآن، المهم هو معرفة مصير تلك المصاحف الفاخرة التى تساوى الشىء الفلانى التى يظل الحاكم يتلقاها خلال «جثومه» على منصبه،
فإذا كان يذهب إلى مناسبتين كل شهر على الأقل فهو يتلقى خلال العام ما بين عشرين وأربعة وعشرين مصحفا، يعنى إذا كان قد بقى فى الحكم ربع قرن سيكون لديه الآن خمسمائة مصحف على الأقل، يعنى أكثر مما بداخل المقر الرئيسى للجمعية الشرعية من مصاحف،
وهو أمر ينبغى أن نفتخر ونعتز به فنحن فى بلد الأزهر ويشرفنا أن يكون لدى مسؤولينا هذا العدد الكبير من المصاحف الموشاة بماء الذهب، لكن ما سيشرفنا أكثر أن يفكر المسؤول الذى يتلقى المصحف ولو لمرة واحدة فى قراءته والتأمل فى بعض آياته الكريمة بدلا من تقبيله والالتفات إلى مساعده لكى يحمله إلى حيث يتم تخزينه مع سابقيه، ولكى لا أظلمه ربما لاتكون الغلطة غلطته بل غلطة من يهدى له المصحف حيث يختار له حجما كبيرا ليس من السهل القراءة فيه،
كما أنه يضعه فى صندوق ثقيل ومحكم الإغلاق وهى كلها طقوس تتنافى مع روحانية الهدية. ربما لو أنصف من يهدى المصحف إلى أى مسؤول وأراد به وبنا خيرا، لكان أكثر تحديدا وهو يهدى المصحف إليه فيفتحه له على آية محددة ويهمس فى أذنه «يا ريت سعادتك تقرا الآية دى»، إذ لربما قرأها فعلا فأيقظت ضميره وأحالت الجبل الجاثم فوق مشاعره خاشعا متصدعا من خشية الله.
يعنى أليس من الأوفق ونحن نهدى للمسؤول مصحفا قطيفة أن نذكره بالآية الكريمة «إن الله يأمر بالعدل والإحسان.. إلخ الآية»، أو بآية «ولا تفسدوا فى الأرض بعد إصلاحها.. إلخ الآية»، أو بآية «ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون.. إلخ الآية»، أو بتلك الآية الجامعة المانعة «ليجزى الله كل نفس ماكسبت إن الله سريع الحساب». ألن تصبح حياتنا أفضل حينها؟،
فنكون مسلمين حقا وصدقا، لامسلمين فقط بالمظاهر الكاذبة والطقوس الجوفاء، أليس من الأفضل أن نفرج عن المصحف من صندوقه القطيفة الفاخر لننتفع حقا وصدقا بما فيه؟،
وإلا فلنفضها سيرة ونعلن أننا لسنا معنيين بما فيه ونهدى للحاكم علبة شيكولاتة أو قزازة ريحة؟، ألا يأتى علينا اليوم الذى يرفض فيه الحاكم أن يعطى المصحف المهدى إليه لمساعده بل يأخذه بنفسه ويترك كل من حوله وما حوله ويجلس محاولا أن يتأمل ما بداخل المصحف لعل كتاب الله يهدى طريقه وينير قلبه فيحارب الفساد والتطرف ويكافح الظلم والجهل؟.
ربما ستجد الإجابة على كل هذه الأسئلة فى ثنايا التعبير القرآنى البديع «الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثانى تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم»، وهى الإجابة التى ستقودك إلى سؤال أخير: لكن ماذا عن جلود الذين لايخشون ربهم؟.
( من كتاب «أمست يبابا» - تحت الطبع)