تسامع الناس أن القبطي صاحب قصة الزواج الأولى قد أوقع الشيخ عبد الحميد في حبائل سحره هذه المرة،
فحصل منه على وعد بالمصاهرة،
وكان لرب الأسرة على هذا العهد أهبة عالية،
لكن زوجة الشيخ ثارت عليه ثورة عارمة،
فتركت له البيت وانطلقت إلى أهلها غاضبة،
واجتمعت الأسرة بأصولها وفروعها،
وألح الجميع على الشيخ أن يراجع نفسه فيما صدر منه من وعد بالقبول،
وبدأت الشائعات تسري من جديد،
وتوافد الخاطبون ومعهم الشفعاء،
لإنقاذ الموقف بتعطيل هذه المصاهرة غير المتكافئة،
وضاق الشيخ ذرعاً،
فعجل بعقد القران والزفاف جميعاً،
وتم ذلك في ليلة أحاط بها الغموض والترقب،
وساعد على فتور المناسبة أنه حضر إليها منفرداً إلا من صاحبيه،
كذلك قاطعت زوجة الشيخ الحفل وهي أم العروس،
وجاملها أهلها فلم يحضر منهم أحد،
والشيخ حازم في ما قرره ماض فيما عزم عليه،
واتهم الناس الشيخ في عقله،
إذ كيف يقبل هذه الصفقة وهو من هو من رجحان العقل والبصيرة،
لكن الهدوء المشوب بالقلق ما لبث أن عاد للحي،
بعدما تبين أن الشيخ قد أنفذ وعده ووفى بعهده وزوج ابنته للطبيب الشاب عبده،
بل إن الناس كادوا ينسون ما حدث بعد سفر الزوجين إلى مقر عمل الطبيب حيث مسكنهما
مرت سنة كاملة ..
وكانت العادة أن المرأة إذا حملت تعود إلى بيت أهلها حتى تقوم والدتها بعنايتها عند الولادة ..
وولدت زوجة عبده الوليد الأول ..
وما كان اليوم الأول ينقضي حتى حضر الطبيب الشاب يهنؤها بولادتها ..
وقد جلب لها من الهدايا كل جميل ..
ولمولوده من الملابس واللعب كل نفيس رائع ..
عاد بزوجته إلى المنزل ومضى ليسجل في سجلات الحكومة واقعة مولوده الأول ..
ثم ما لبث أن عاد إلى بيته بشهادة ميلاد ابنه ..
عيـــــــــــــــسى ..
وأقبل على زوجته يرشدها إلى ما ينبغي عليها عمله من احتياطات ..
وانصرف إلى عمله بعد أن اطمأن على زوجته وولده ..
و جاء الشيخ ليطمأن على ابنته وولده ..
فأخبرته بحضور عبده وانصرافه بعدما أثبت اسم الوليد في السجلات ..
وسألها أبوها في فرحة ..
فماذا اختار لابني من الأسماء ..
فأجابته ابنته دون وعي :
عيسى ..
لكنها رأت من أبيها أمراً عجباً ..
إذ ما لبث حين سمع الاسم أن ضرب كفاً بكف ..
وقد تغير لونه وتقطب جبينه ..
وظهر الغضب الشديد عليه وهو يقول:
عيسى عيسى ..
وا عجباً لهذا الرجل ..
أو لم يجد في كل الأسماء التي خلقها الله اسماً جديراً بهذا المخلوق إلا هذا الاسم ..
أستغفر الله العظيم .. أستغفر الله العظيم .. أستغفر الله العظيم ..
وانطلق من عند ابنته وهو يقول:
لا حول ولا قوة إلا بالله ..
وأحست ابنته أن أمراً عظيماً قد حدث ..
وأن خطأ لا يمكن إصلاحه قد وقع ..
فما هكذا رأت أباها على طول ما عاشت ورأت ..
وباتت فريسة لأفكارها وهواجسها ..
أما الشيخ فقد اعتكف في داره أياماً لا يرى فيها أحداً ..
وأما زوجته فقد كانت تغالب دموعها ..
فقد تحقق للجميع أخيراً ..
ظنها البصير بهذا الطبيب وألاعيبه ..
وكانت إذا همت بالدخول على ابنتها ..
كفكفت دموعها حتى لا تفجع ابنتها بما أسلمها أبوها له من مصير..
وما جناه عليها بعناده وغفلته ..
وانخداعه بأساليب هذا الطبيب الذي سحره ...
وفي اليوم السابع أضيئت الشموع ذراً للرماد في العيون ..
وتمويها على الأم البائسة التي ارتبطت بزوج قيل أنه أسلم بل وحسن إسلامه ..
فإذا به يعلن في غير حياء ولا مواربة ..
أنه ما زال مخلصاً لماضيه ..
ولدينه القديم ..
وإلا .. بماذا نفسر اختياره لاسم عيسى اسماً لولده ..
ولم يكن اليوم السابع هذا ينقضي ..
حتى غرقت أسرة الشيخ في موجة من الهم والحزن فوق الذي كان قد تجمع لها من قبل ..
ذلك أن بشيراً من أسرة الطبيب عبده ..
جاء من حي الظاهر ..
يهنيء الشيخ بمولود عبده الجديد .. عيسى ..
ولم يكن بين أسرة الشيخ وأسرة عبده سابق ود ولا اتصال ..
وقد كانت لهذه التهنئة منهم معانٍ غير خافية عليه ..
لكن الشيخ تماسك واصطنع الثبات اصطناعاً ..
حتى كان الغد ..
فخرج من الفجر ليلحق بالطبيب عبده في داره ..
قبل أن يغادرها إلى العمل ..
فإن له معه شأناً ..
(19)
حين فتح الطبيب باب داره للشيخ ..
فوجيء به يغلق الباب بعنف خلفه ..
وهو يمسك بتلابيبه ..
ويقول له :
ما هذا الذي فعلت بابنتي أيها الزنديق ؟..
والله لا أفلتك من يدي حتى أعلم حقيقتك ..
وقد سكتنا عن التزامك اسمك رغم اعتناقك الإسلام ..
وكان يجب أن تغيره إلى ما يدل على إسلامك ..
ولقد أحسنا الظن بك وبما سقته من حجج ..
كانت تبدو لنا صادقة يوم نطقت بها ..
أما وقد انكشف أمرك الآن بتسمية ولدك عيسى ..
فاعلم أن اختيارك لولدك هذا الاسم ..
له من المعاني ما لا يخفى على أحد ..
ولقد كنت أعالج نفسي بالتصبر حتى ألقاك ..
إلى أن جاءنا بشير من عند أبيك ..
يحمل التهاني التي تنطوي على سخرية أبيك بعقولنا ..
وشماتته بمصير ابنتي المسكينة ..
التي جنيت عليها حين قبلت زواجك بها ..
فتكلم بالحق وإلا قتلتك شر قتلة ..
ورأى الطبيب أن الشيخ يهدر غاضباً ..
والدماء تندفع إلى جبينه حمراء قاتلة ..
والشرر يتطاير من عينيه ..
يشير إلى ما في صدره من غليان براكين الثورة ..
فبقي بين يدي الشيخ هادئاً ساكناً حتى تمر العاصفة ..
لكن حالة الشيخ كانت تنبؤ أنه قد انتوى أمراً خطيراً ..
وأنه قد يرتكب جرماً وحشياً تحت وطأة إحساسه بخيبة الرجاء ..
إذ كان يبدو عليه أنه استنفد من الجهد ما أضناه ..
وأنه سيتصرف مع الطبيب تصرف اليائس منه ..
فبادره الطبيب قائلاً :
ياعم ..
أقسم لك أن الأمر كما علمته من حسن إسلامي ..
ولقد أكرمتني بإحسانك إلي إذ قبلت مصاهرتي لك ..
فكيف تصورت في نفسك ما نطق به لسانك الآن ..
وهل تظن أن ما جرى لي بسبب إسلامي ..
وملاحقة أهلي لي .. بالتهديد والويلات والأذى ..
وطردهم لي من دار أبي ..
وهجري لأهلي ..
ولجوئي إلى الحق والهدى ..
كان كله تمثيلا وعبثاً ..
وهل قدمت لي منذ عرفتك إلا الخير والعون والحب ..
فكيف تظنني أسيء إليك أو أجني على ابنتك ..
وإذا كان ذلك مما يجوز لي وأنا على غير سبيل الحق ..
فكيف أجيزه لنفسي ..
وقد عرفت الله ورسوله والقرآن ..
يا عم ..
إن كنت أردت – بعد ما قلته لك والله على ما أقول شهيد –
أن تزيدني إيماناً ..
فها أنا ذا بين يديك ..
ما تغيرت وما استبدلت ..
فأنت صهري وعمي وأبي وأهلي ..
وليس لي الآن بعد ولدي من هو أقرب إلي منك ..
وستجدني طوع أمرك فيما تظنه صواباً ..
وسأقبل حكمك أياً كان ..
فهلا منحتني بعض ما قد يكون بقي عندك من صبر ..
لعلي أحدثك بما بقي عندي من حكمة اختيار اسم عيسى لولدي ..
كانت لهجة الطبيب هادئة ..
رغم ما صبه عليه صهره من لوم وتقريع ..
ورغم شناعة الصورة التي رسمها صهره ..
من فزع أحاط الأسرة .. وأحداث جسام توشك أن تعصف بالجميع ..
فلا الطبيب ناجٍ بصورته هذه ..
ولا أصهاره سعداء بما يمكن أن يحدثوه به من انتقام لسمعتهم ..
التي ألحق بها خزياً ما بعده خزي ..
رغم كل ذلك .. قال له الشيخ :
تكلم وقل ما عندك ..
ولا تخفي عني شيئاً ..
ولتعلم أنك قد ألقيتني في الجحيم ..
جزاء صنيع المعروف معك ..
فابتسم الطبيب وهو يقول :
كأنك لا تريدني يا عم أن أتكلم ..
قال : بل ها أنا ذا مصغٍ إليك ..
واعٍ لما ستقول .. والله وحده يعينني على ما أنا فيه ..
قال الطبيب الناشيء:
إن بيني وبين ربي عهداً لا يعلمه إلا هو ..
وإني أسير على الدرب لا أحيد ..
وما وجدت من ربي إلا الفضل يتلوه الفضل ..
وفي ظني والعلم عند الله جل شأنه ..
أن هذا الحادث الذي أفزعكم حتى آذيتموني ..
هو أكبر نعمة من بها الله علي بعد نعمة الإسلام ..
تمتم الشيخ في صوت حزين:
أكبر نعمة .. تقول أكبر نعمة ..
اللهم إنك أنت السلام ومنك السلام .. اللهم أفرغ علينا صبراً من عندك .. ولا حول ولا قوة إلا بالله ..
عاد الطبيب يقول:
نعم .. قد يكون هذا التتابع في الأحداث بشيراً لي ..
بأن الله قد سمع لدعائي فاستجاب ..
فله الحمد في الأولى والآخرة ..
ثم استطرد يقول ..
إنني يا سيدي .. حين تمسكت بنفسي – بعد إسلامي- بالاسم ..
الذي كان قد اختاره والدي ..
وهو كما تعلم : عبده ..
تعلق رجائي بأن يمتد بي الأجل ..
حتى أكون كفؤاً لزوجة صالحة من بيت طيب ..
وأن أرزق منها مولوداً يكون أول أولادي ..
وأن أدعوه : عيــــــــــسى..
وها قد تحقق الرجاء بفضل من الله ونعمة ..
وقاطعه الشيخ محتداً :
وأي فضل تريدني أن أراه فيما ذكرت ..؟
فارتفع صوت الطبيب الشاب في نبرة تشبه الغضب .. وقال :
يا سيدي .. صبراً .. فما أتممت الكلام بعد ..
وأنت ترى أن هذه الأمور التي وقعت .. لا تستوقف نظرك ..
ولا تثير فيك عجباً ..
أما أنا .. فقد رأيت هذه الأمور قبل أن تقع .. آمالاً ..
ترتفع يداي في كل لحظة بسببها إلى السماء بالدعاء ..
آمالاً .. سهرت من أجلها الليالي الحالكة ..
التي أحاطت بي لبضع سنوات مضت ..
وإن الله الذي أنعم علي بهذا كله ..
لأكرم من أن يرد ما بقي لي من رجاء عنده..
قال الشيخ : وما هذا الرجاء؟
قال الطبيب:
إنه إن شئت رجاء ..
وإنه إن شئت عهد وميثاق .. إذا نحن أمعنا النظر ..
فلقد كنت عاهدت ربي ..
إن هو رزقني بصبي .. لأحرصن على تنشئته تنشئة صالحة ..
ولأدعون له بطول العمر ..
وبالتوفيق إلى ما فيه رضا الله ..
وبأن يكون له في حياته ومن بعد مماته ..
أحسن الذكر على ألسنة العباد ..
ضاق الشيخ ذرعاً باستطراد هذا الطبيب الحدث في سرد أحلامه ..
فقاطعه قائلاً:
وأي والد لا يرجو لولده مثلما رجوت وأملت ..
وأية صلة بين هذا الرجاء .. وذلك الميثاق ..
وبين اختيار المسيح عيسى ابن مريم ليكون علماً على ولدك ليكون خيراً كما تقول ..
قال: يا عم ..
إنني لا أحصي ثناءً على ربي ..
ولا أقدر على حمده كفاء ما أنعم به علي ..
ولذلك جعلت من وجود هذا الولد ..
شهادة تنبض بالحياة ..
ما بقيت له الحياة ..
بأن (عيسى) .. (عبده) ..
وماهو بولده ..
وما هو بالإله .. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ..
فكلما ذكر ولدي الذاكرون غائباً أو حاضراً ..
حياً أو ميتاً ..
كان ذكرهم هذا شهادة مني بين يدي الله عز وجل ..
بأن عيسى عبده ..
وما هو بولده ..
ولقد استجاب ربي لأول الدعاء ..
وهاهو الولد الصغير حقيقة ماثلة بين يدي ..
وشهادة مني بما آمنت به ..
وإن الذي أسبغ علي هذه النعمة الكبرى ..
لقادر على أن يمد في أجله ..
وأن يهديه سواء السبيل ..
حتى يكون أهلاً لهذه الشهادة ..
التي فرقت في حياتي بين ضلال كنت فيه ..
وهداية أرجو أن تزيد ..
ياعم ..
إن الغيب من ضنائن الرحمن ..
وإنا لاندري أيكون هذا الصبي صالحاً أم غير صالح ..
ولا ندري هل كتب له من العمر ما يطول .. أم كانت الأخرى ..
ولكنني أعلم من الله أنه ما خذلني ..
ولا أسلمني لأمر لا أحبه ..
منذ سرى في أطرافي هذا الشوق من الوضوء أول مرة ..
وأنا بعد صبي لا أميز بين عقيدة وأخرى ..
يا عم ..
إذا فرغت من الشهادة بتسمية عيسى التي أرجو أن تكون شفيعي عند الواحد الأحد ..
على نحو ما عاهدت ربي ..
فأي الأسماء بعد ذلك يتمم الشهادة ..
وهل هناك من اسم يذكر بعد شهادة ألا إله إلا الله .. سوى محمد رسول الله ..
لذلك فإني أرجو من الله أن يكون حفيدك الثاني ...
(محمد عبده) ..
ثم ضحك قائلاً :
إن زوجتي لولود .. وإن غداً لناظره لقريب ..
قال له الشيخ :
انصرف إلى عملك يا رعاك الله ..
وإنني عائد إلى حي السيدة زينب ..
والله يعلم بما أنا فيه ..
إنك تعيش في جو من الصفاء ..
لا تعيش فيه كثرة الناس ..
وإن أعمالك وأقوالك لا يفهمها .. إلا من أنار الله بصيرته ..
وحاط بدين الله من كل جوانبه ..
وما أقل هؤلاء في زماننا ..
لكنك يا عبده ..
قد أتعبتني منذ عرفتك ..
ولا إخالك إلا هكذا ما حييت ..
عفا الله عنك يا بني ..
ثم شد الشيخ على يد صهره مودعاً .. وهو يقول :
على إني لا أضيق بيوم التقينا فيه ..
ولا أتمنى الآن غير الذي جرت به المقادير ..
ثم انصرف ..
التوقيع
فحصل منه على وعد بالمصاهرة،
وكان لرب الأسرة على هذا العهد أهبة عالية،
لكن زوجة الشيخ ثارت عليه ثورة عارمة،
فتركت له البيت وانطلقت إلى أهلها غاضبة،
واجتمعت الأسرة بأصولها وفروعها،
وألح الجميع على الشيخ أن يراجع نفسه فيما صدر منه من وعد بالقبول،
وبدأت الشائعات تسري من جديد،
وتوافد الخاطبون ومعهم الشفعاء،
لإنقاذ الموقف بتعطيل هذه المصاهرة غير المتكافئة،
وضاق الشيخ ذرعاً،
فعجل بعقد القران والزفاف جميعاً،
وتم ذلك في ليلة أحاط بها الغموض والترقب،
وساعد على فتور المناسبة أنه حضر إليها منفرداً إلا من صاحبيه،
كذلك قاطعت زوجة الشيخ الحفل وهي أم العروس،
وجاملها أهلها فلم يحضر منهم أحد،
والشيخ حازم في ما قرره ماض فيما عزم عليه،
واتهم الناس الشيخ في عقله،
إذ كيف يقبل هذه الصفقة وهو من هو من رجحان العقل والبصيرة،
لكن الهدوء المشوب بالقلق ما لبث أن عاد للحي،
بعدما تبين أن الشيخ قد أنفذ وعده ووفى بعهده وزوج ابنته للطبيب الشاب عبده،
بل إن الناس كادوا ينسون ما حدث بعد سفر الزوجين إلى مقر عمل الطبيب حيث مسكنهما
مرت سنة كاملة ..
وكانت العادة أن المرأة إذا حملت تعود إلى بيت أهلها حتى تقوم والدتها بعنايتها عند الولادة ..
وولدت زوجة عبده الوليد الأول ..
وما كان اليوم الأول ينقضي حتى حضر الطبيب الشاب يهنؤها بولادتها ..
وقد جلب لها من الهدايا كل جميل ..
ولمولوده من الملابس واللعب كل نفيس رائع ..
عاد بزوجته إلى المنزل ومضى ليسجل في سجلات الحكومة واقعة مولوده الأول ..
ثم ما لبث أن عاد إلى بيته بشهادة ميلاد ابنه ..
عيـــــــــــــــسى ..
وأقبل على زوجته يرشدها إلى ما ينبغي عليها عمله من احتياطات ..
وانصرف إلى عمله بعد أن اطمأن على زوجته وولده ..
و جاء الشيخ ليطمأن على ابنته وولده ..
فأخبرته بحضور عبده وانصرافه بعدما أثبت اسم الوليد في السجلات ..
وسألها أبوها في فرحة ..
فماذا اختار لابني من الأسماء ..
فأجابته ابنته دون وعي :
عيسى ..
لكنها رأت من أبيها أمراً عجباً ..
إذ ما لبث حين سمع الاسم أن ضرب كفاً بكف ..
وقد تغير لونه وتقطب جبينه ..
وظهر الغضب الشديد عليه وهو يقول:
عيسى عيسى ..
وا عجباً لهذا الرجل ..
أو لم يجد في كل الأسماء التي خلقها الله اسماً جديراً بهذا المخلوق إلا هذا الاسم ..
أستغفر الله العظيم .. أستغفر الله العظيم .. أستغفر الله العظيم ..
وانطلق من عند ابنته وهو يقول:
لا حول ولا قوة إلا بالله ..
وأحست ابنته أن أمراً عظيماً قد حدث ..
وأن خطأ لا يمكن إصلاحه قد وقع ..
فما هكذا رأت أباها على طول ما عاشت ورأت ..
وباتت فريسة لأفكارها وهواجسها ..
أما الشيخ فقد اعتكف في داره أياماً لا يرى فيها أحداً ..
وأما زوجته فقد كانت تغالب دموعها ..
فقد تحقق للجميع أخيراً ..
ظنها البصير بهذا الطبيب وألاعيبه ..
وكانت إذا همت بالدخول على ابنتها ..
كفكفت دموعها حتى لا تفجع ابنتها بما أسلمها أبوها له من مصير..
وما جناه عليها بعناده وغفلته ..
وانخداعه بأساليب هذا الطبيب الذي سحره ...
وفي اليوم السابع أضيئت الشموع ذراً للرماد في العيون ..
وتمويها على الأم البائسة التي ارتبطت بزوج قيل أنه أسلم بل وحسن إسلامه ..
فإذا به يعلن في غير حياء ولا مواربة ..
أنه ما زال مخلصاً لماضيه ..
ولدينه القديم ..
وإلا .. بماذا نفسر اختياره لاسم عيسى اسماً لولده ..
ولم يكن اليوم السابع هذا ينقضي ..
حتى غرقت أسرة الشيخ في موجة من الهم والحزن فوق الذي كان قد تجمع لها من قبل ..
ذلك أن بشيراً من أسرة الطبيب عبده ..
جاء من حي الظاهر ..
يهنيء الشيخ بمولود عبده الجديد .. عيسى ..
ولم يكن بين أسرة الشيخ وأسرة عبده سابق ود ولا اتصال ..
وقد كانت لهذه التهنئة منهم معانٍ غير خافية عليه ..
لكن الشيخ تماسك واصطنع الثبات اصطناعاً ..
حتى كان الغد ..
فخرج من الفجر ليلحق بالطبيب عبده في داره ..
قبل أن يغادرها إلى العمل ..
فإن له معه شأناً ..
(19)
حين فتح الطبيب باب داره للشيخ ..
فوجيء به يغلق الباب بعنف خلفه ..
وهو يمسك بتلابيبه ..
ويقول له :
ما هذا الذي فعلت بابنتي أيها الزنديق ؟..
والله لا أفلتك من يدي حتى أعلم حقيقتك ..
وقد سكتنا عن التزامك اسمك رغم اعتناقك الإسلام ..
وكان يجب أن تغيره إلى ما يدل على إسلامك ..
ولقد أحسنا الظن بك وبما سقته من حجج ..
كانت تبدو لنا صادقة يوم نطقت بها ..
أما وقد انكشف أمرك الآن بتسمية ولدك عيسى ..
فاعلم أن اختيارك لولدك هذا الاسم ..
له من المعاني ما لا يخفى على أحد ..
ولقد كنت أعالج نفسي بالتصبر حتى ألقاك ..
إلى أن جاءنا بشير من عند أبيك ..
يحمل التهاني التي تنطوي على سخرية أبيك بعقولنا ..
وشماتته بمصير ابنتي المسكينة ..
التي جنيت عليها حين قبلت زواجك بها ..
فتكلم بالحق وإلا قتلتك شر قتلة ..
ورأى الطبيب أن الشيخ يهدر غاضباً ..
والدماء تندفع إلى جبينه حمراء قاتلة ..
والشرر يتطاير من عينيه ..
يشير إلى ما في صدره من غليان براكين الثورة ..
فبقي بين يدي الشيخ هادئاً ساكناً حتى تمر العاصفة ..
لكن حالة الشيخ كانت تنبؤ أنه قد انتوى أمراً خطيراً ..
وأنه قد يرتكب جرماً وحشياً تحت وطأة إحساسه بخيبة الرجاء ..
إذ كان يبدو عليه أنه استنفد من الجهد ما أضناه ..
وأنه سيتصرف مع الطبيب تصرف اليائس منه ..
فبادره الطبيب قائلاً :
ياعم ..
أقسم لك أن الأمر كما علمته من حسن إسلامي ..
ولقد أكرمتني بإحسانك إلي إذ قبلت مصاهرتي لك ..
فكيف تصورت في نفسك ما نطق به لسانك الآن ..
وهل تظن أن ما جرى لي بسبب إسلامي ..
وملاحقة أهلي لي .. بالتهديد والويلات والأذى ..
وطردهم لي من دار أبي ..
وهجري لأهلي ..
ولجوئي إلى الحق والهدى ..
كان كله تمثيلا وعبثاً ..
وهل قدمت لي منذ عرفتك إلا الخير والعون والحب ..
فكيف تظنني أسيء إليك أو أجني على ابنتك ..
وإذا كان ذلك مما يجوز لي وأنا على غير سبيل الحق ..
فكيف أجيزه لنفسي ..
وقد عرفت الله ورسوله والقرآن ..
يا عم ..
إن كنت أردت – بعد ما قلته لك والله على ما أقول شهيد –
أن تزيدني إيماناً ..
فها أنا ذا بين يديك ..
ما تغيرت وما استبدلت ..
فأنت صهري وعمي وأبي وأهلي ..
وليس لي الآن بعد ولدي من هو أقرب إلي منك ..
وستجدني طوع أمرك فيما تظنه صواباً ..
وسأقبل حكمك أياً كان ..
فهلا منحتني بعض ما قد يكون بقي عندك من صبر ..
لعلي أحدثك بما بقي عندي من حكمة اختيار اسم عيسى لولدي ..
كانت لهجة الطبيب هادئة ..
رغم ما صبه عليه صهره من لوم وتقريع ..
ورغم شناعة الصورة التي رسمها صهره ..
من فزع أحاط الأسرة .. وأحداث جسام توشك أن تعصف بالجميع ..
فلا الطبيب ناجٍ بصورته هذه ..
ولا أصهاره سعداء بما يمكن أن يحدثوه به من انتقام لسمعتهم ..
التي ألحق بها خزياً ما بعده خزي ..
رغم كل ذلك .. قال له الشيخ :
تكلم وقل ما عندك ..
ولا تخفي عني شيئاً ..
ولتعلم أنك قد ألقيتني في الجحيم ..
جزاء صنيع المعروف معك ..
فابتسم الطبيب وهو يقول :
كأنك لا تريدني يا عم أن أتكلم ..
قال : بل ها أنا ذا مصغٍ إليك ..
واعٍ لما ستقول .. والله وحده يعينني على ما أنا فيه ..
قال الطبيب الناشيء:
إن بيني وبين ربي عهداً لا يعلمه إلا هو ..
وإني أسير على الدرب لا أحيد ..
وما وجدت من ربي إلا الفضل يتلوه الفضل ..
وفي ظني والعلم عند الله جل شأنه ..
أن هذا الحادث الذي أفزعكم حتى آذيتموني ..
هو أكبر نعمة من بها الله علي بعد نعمة الإسلام ..
تمتم الشيخ في صوت حزين:
أكبر نعمة .. تقول أكبر نعمة ..
اللهم إنك أنت السلام ومنك السلام .. اللهم أفرغ علينا صبراً من عندك .. ولا حول ولا قوة إلا بالله ..
عاد الطبيب يقول:
نعم .. قد يكون هذا التتابع في الأحداث بشيراً لي ..
بأن الله قد سمع لدعائي فاستجاب ..
فله الحمد في الأولى والآخرة ..
ثم استطرد يقول ..
إنني يا سيدي .. حين تمسكت بنفسي – بعد إسلامي- بالاسم ..
الذي كان قد اختاره والدي ..
وهو كما تعلم : عبده ..
تعلق رجائي بأن يمتد بي الأجل ..
حتى أكون كفؤاً لزوجة صالحة من بيت طيب ..
وأن أرزق منها مولوداً يكون أول أولادي ..
وأن أدعوه : عيــــــــــسى..
وها قد تحقق الرجاء بفضل من الله ونعمة ..
وقاطعه الشيخ محتداً :
وأي فضل تريدني أن أراه فيما ذكرت ..؟
فارتفع صوت الطبيب الشاب في نبرة تشبه الغضب .. وقال :
يا سيدي .. صبراً .. فما أتممت الكلام بعد ..
وأنت ترى أن هذه الأمور التي وقعت .. لا تستوقف نظرك ..
ولا تثير فيك عجباً ..
أما أنا .. فقد رأيت هذه الأمور قبل أن تقع .. آمالاً ..
ترتفع يداي في كل لحظة بسببها إلى السماء بالدعاء ..
آمالاً .. سهرت من أجلها الليالي الحالكة ..
التي أحاطت بي لبضع سنوات مضت ..
وإن الله الذي أنعم علي بهذا كله ..
لأكرم من أن يرد ما بقي لي من رجاء عنده..
قال الشيخ : وما هذا الرجاء؟
قال الطبيب:
إنه إن شئت رجاء ..
وإنه إن شئت عهد وميثاق .. إذا نحن أمعنا النظر ..
فلقد كنت عاهدت ربي ..
إن هو رزقني بصبي .. لأحرصن على تنشئته تنشئة صالحة ..
ولأدعون له بطول العمر ..
وبالتوفيق إلى ما فيه رضا الله ..
وبأن يكون له في حياته ومن بعد مماته ..
أحسن الذكر على ألسنة العباد ..
ضاق الشيخ ذرعاً باستطراد هذا الطبيب الحدث في سرد أحلامه ..
فقاطعه قائلاً:
وأي والد لا يرجو لولده مثلما رجوت وأملت ..
وأية صلة بين هذا الرجاء .. وذلك الميثاق ..
وبين اختيار المسيح عيسى ابن مريم ليكون علماً على ولدك ليكون خيراً كما تقول ..
قال: يا عم ..
إنني لا أحصي ثناءً على ربي ..
ولا أقدر على حمده كفاء ما أنعم به علي ..
ولذلك جعلت من وجود هذا الولد ..
شهادة تنبض بالحياة ..
ما بقيت له الحياة ..
بأن (عيسى) .. (عبده) ..
وماهو بولده ..
وما هو بالإله .. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ..
فكلما ذكر ولدي الذاكرون غائباً أو حاضراً ..
حياً أو ميتاً ..
كان ذكرهم هذا شهادة مني بين يدي الله عز وجل ..
بأن عيسى عبده ..
وما هو بولده ..
ولقد استجاب ربي لأول الدعاء ..
وهاهو الولد الصغير حقيقة ماثلة بين يدي ..
وشهادة مني بما آمنت به ..
وإن الذي أسبغ علي هذه النعمة الكبرى ..
لقادر على أن يمد في أجله ..
وأن يهديه سواء السبيل ..
حتى يكون أهلاً لهذه الشهادة ..
التي فرقت في حياتي بين ضلال كنت فيه ..
وهداية أرجو أن تزيد ..
ياعم ..
إن الغيب من ضنائن الرحمن ..
وإنا لاندري أيكون هذا الصبي صالحاً أم غير صالح ..
ولا ندري هل كتب له من العمر ما يطول .. أم كانت الأخرى ..
ولكنني أعلم من الله أنه ما خذلني ..
ولا أسلمني لأمر لا أحبه ..
منذ سرى في أطرافي هذا الشوق من الوضوء أول مرة ..
وأنا بعد صبي لا أميز بين عقيدة وأخرى ..
يا عم ..
إذا فرغت من الشهادة بتسمية عيسى التي أرجو أن تكون شفيعي عند الواحد الأحد ..
على نحو ما عاهدت ربي ..
فأي الأسماء بعد ذلك يتمم الشهادة ..
وهل هناك من اسم يذكر بعد شهادة ألا إله إلا الله .. سوى محمد رسول الله ..
لذلك فإني أرجو من الله أن يكون حفيدك الثاني ...
(محمد عبده) ..
ثم ضحك قائلاً :
إن زوجتي لولود .. وإن غداً لناظره لقريب ..
قال له الشيخ :
انصرف إلى عملك يا رعاك الله ..
وإنني عائد إلى حي السيدة زينب ..
والله يعلم بما أنا فيه ..
إنك تعيش في جو من الصفاء ..
لا تعيش فيه كثرة الناس ..
وإن أعمالك وأقوالك لا يفهمها .. إلا من أنار الله بصيرته ..
وحاط بدين الله من كل جوانبه ..
وما أقل هؤلاء في زماننا ..
لكنك يا عبده ..
قد أتعبتني منذ عرفتك ..
ولا إخالك إلا هكذا ما حييت ..
عفا الله عنك يا بني ..
ثم شد الشيخ على يد صهره مودعاً .. وهو يقول :
على إني لا أضيق بيوم التقينا فيه ..
ولا أتمنى الآن غير الذي جرت به المقادير ..
ثم انصرف ..
التوقيع